فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{قَالُوا يَاصَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} أَيْ: قَدْ كُنْتَ مَوْضِعَ رَجَائِنَا لِمُهِمَّاتِ أُمُورِنَا، لِمَا لَكَ مِنَ الْمَكَانَةِ فِي بَيْتِكَ وَفِي صِفَاتِكَ الشَّخْصِيَّةِ مِنَ الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ، قَبْلَ هَذَا الَّذِي تَدْعُونَا إِلَيْهِ مِنْ تَبْدِيلِ دِينِنَا بِمَا تَزْعُمُ مِنْ بُطْلَانِهِ فَانْقَطَعَ رَجَاؤُنَا مِنْكَ {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}؟ الِاسْتِفْهَامُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعَجُّبِ، أَيْ: أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلِنَا وَاسْتَمَرَّ فِينَا لَا يُنْكِرُهُ وَلَا يَسْتَقْبِحُهُ أَحَدٌ؟ فَالْآبَاءُ يَشْمَلُ الْغَابِرِينَ وَالْحَاضِرِينَ، وَلَوْ قَالُوا: مَا عَبَدَ آبَاؤُنَا لَمَا أَفَادَ هَذَا، فَلَا حَاجَةَ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ التَّعْبِيرَ بِالْمُضَارِعِ حِكَايَةٌ مُصَوِّرَةٌ لِلْحَالِ الْمَاضِيَةِ فِي صُورَةِ الْحَاضِرَةِ {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} أَيْ: وَإِنَّا لَوَاقِعُونَ فِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مِنْ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لَا نَتَوَسَّلُ إِلَيْهِ بِأَحَدٍ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَأَحِبَّائِهِ الشُّفَعَاءِ لَنَا عِنْدَهُ الْمُقَرِّبِينَ لَنَا إِلَيْهِ، وَلَا بِتَعْظِيمِ مَا وَضَعَهُ آبَاؤُنَا لَهُمْ مِنَ الصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ الْمُذَكِّرَةِ بِهِمْ، لَا نَدْرِي مُرَادَكَ وَغَرَضَكَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ مُوجِبٌ لِلرَّيْبِ وَسُوءِ الظَّنِّ. قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: الرَّيْبُ: الظَّنُّ وَالشَّكُّ، وَرَابَنِي الشَّيْءُ يَرِيبُنِي إِذَا جَعَلَكَ شَاكًّا، قَالَ أَبُو زَيْدٍ: رَابَنِي مِنْ فُلَانٍ أَمْرٌ يَرِيبُنِي رَيْبًا: إِذَا اسْتَيْقَنْتُ مِنْهُ الرِّيبَةَ، فَإِذَا أَسَأْتَ بِهِ الظَّنَّ وَلَمْ تَسْتَيْقِنْ مِنْهُ الرِّيبَةَ، قُلْتَ: أَرَابَنِي مِنْهُ أَمَرٌ هُوَ فِيهِ إِرَابَةٌ، وَأَرَابَنِي فُلَانٌ إِرَابَةً فَهُوَ مُرِيبٌ: إِذَا بَلَغَكَ عَنْهُ شَيْءٌ أَوْ تَوَهَّمْتَهُ اهـ.
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ فِي الْآيَةِ 28 إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} أَيْ: أَخْبِرُونِي عَنْ حَالِي مَعَكُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى حُجَّةٍ وَاضِحَةٍ قَطْعِيَّةٍ مِنْ رَبِّي فِيمَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ، وَوَهَبَنِي رَحْمَةً خَاصَّةً مِنْهُ جَعَلَنِي بِهَا نَبِيًّا مُرْسَلًا إِلَيْكُمْ {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} بِكِتْمَانِ الرِّسَالَةِ أَوْ مَا يَسُوءُكُمْ مِنْ بُطْلَانِ عِبَادَةِ أَصْنَامِكُمْ وَأَوْثَانِكُمْ تَقْلِيدًا لِآبَائِكُمْ؟ أَيْ لَا أَحَدَ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ وَيَدْفَعُ عَنِّي عِقَابَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَإِذَنْ لَا أُبَالِي بِفَقْدِ رَجَائِكُمْ فِيَّ، وَلَا بِمَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ شَكٍّ وَارْتِيَابٍ فِي أَمْرِي {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} أَيْ مَا تَزِيدُونَنِي بِحِرْصِي عَلَى رَجَائِكُمْ فِيَّ وَاتِّقَاءِ سُوءِ ظَنِّكُمْ وَارْتِيَابِكُمْ، غَيْرَ إِيقَاعٍ فِي الْخُسْرَانِ بِإِيثَارِ مَا عِنْدَكُمْ عَلَى مَا عِنْدَ اللهِ، وَاشْتِرَاءِ رِضَاكُمْ بِسُخْطِ اللهِ- تَعَالَى-، أَوْ غَيْرِ إِيقَاعٍ فِي الْهَلَاكِ، قَالَ فِي مَجَازِ الْأَسَاسِ: وَخَسَّرَهُ سُوءُ عَمَلِهِ: أَهْلَكَهُ، وَفِي الْمِصْبَاحِ الْمُنِيرِ: وَخَسَّرْتُ فُلَانًا بِالتَّثْقِيلِ أَبْعَدْتُهُ، وَخَسَّرْتُهُ: نَسَبْتُهُ إِلَى الْخُسْرَانِ، مِثْلَ كَذَّبْتُهُ بِالتَّثْقِيلِ إِذَا نَسَبْتُهُ إِلَى الْكَذِبِ، مِثْلُهُ فَسَّقْتُهُ وَفَجَّرْتُهُ إِذَا نَسَبْتَهُ إِلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ فِي الْجُمْلَةِ: فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَضْلِيلٍ وَإِبْعَادٍ مِنَ الْخَيْرِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: مَا تَزْدَادُونَ أَنْتُمْ إِلَّا خَسَارًا. انْتَهَى... وَلَعَلَّ مُرَادَهُمَا: مَا تَزِيدُونَنِي بِقَوْلِكُمْ إِلَّا عِلْمًا بِخَسَارِكُمْ بِاسْتِبْدَالِ الشِّرْكِ بِالتَّوْحِيدِ.
{وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)}
هَذِهِ الْآيَاتُ الْخَمْسُ فِي بَيِّنَةِ اللهِ لِصَالِحٍ عليه السلام وَهِيَ آيَتُهُ عَلَى رِسَالَتِهِ، وَإِنْذَارِهِمُ الْهَلَاكَ وَعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ إِذَا هُمْ مَسُّوهَا بِسُوءٍ، وَوُقُوعِ ذَلِكَ بِالْفِعْلِ.
{وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً} أَيِ: النَّاقَةُ الَّتِي شَرَّفَهَا اللهُ بِإِضَافَتِهَا إِلَى اسْمِهِ بِجَعْلِهَا مُمْتَازَةً دُونَ الْإِبِلِ بِمَا تَرَوْنَ مِنْ أَمْرِهَا وَأَكْلِهَا وَشُرْبِهَا، أُشِيرَ إِلَيْهَا حَالَ كَوْنِهَا لَكُمْ آيَةً مِنْهُ بَيِّنَةً دَالَّةً عَلَى هَلَاكِكُمْ إِنْ خَالَفْتُمْ أَمْرَهُ فِيهَا {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ} مِمَّا فِيهَا مِنَ الْمَرَاعِي لَا يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ بِمَنْعٍ {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} أَيْ: لَا يَمَسَّهَا أَحَدٌ مِنْكُمْ بِأَذًى فَيَأْخُذَكُمْ كُلَّكُمْ عَذَابٌ عَاجِلٌ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ مَسِّكُمْ إِيَّاهَا بِعُقْرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْإِنْذَارُ بِنَصِّهِ فِي قِصَّتِهِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، إِلَّا أَنَّهُ قَالَ هُنَاكَ: {عَذَابٌ أَلِيمٌ} 7: 73 وَكُلٌّ مِنَ الْوَصْفَيْنِ حَقٌّ، وَقَدْ تَكَلَّمْتُ هُنَالِكَ عَلَى هَذِهِ النَّاقَةِ وَمَعْنَى إِضَافَتِهَا إِلَى اللهِ- تَعَالَى-، وَمَا جَاءَ فِيهَا مِنَ السُّوَرِ الْأُخْرَى، وَمِنْهُ قِسْمَةُ الْمَاءِ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ.
{فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} يَقُولُونَ: عَقَرَ النَّاقَةَ (مِنْ بَابِ ضَرَبَ) بِالسَّيْفِ إِذَا ضَرَبَ قَوَائِمَهَا لَهُ أَوْ نَحْرَهَا، أَيْ فَقَتَلُوا النَّاقَةَ عَقِبَ ذَلِكَ الْإِنْذَارِ غَيْرَ مُصَدِّقِينَ لَهُ وَلَا مُبَالِينَ بِالْوَعِيدِ، فَضَرَبَ لَهُمْ صَالِحٌ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَوْعِدًا يَتَمَتَّعُونَ بِهَا فِي وَطَنِهِمْ كَمَا كَانُوا فِي مَعَايِشِهِمْ {ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} أَيْ: وَعْدٌ مِنَ اللهِ غَيْرُ مَكْذُوبٍ فِيهِ، وَكَذَّبَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ فَيُقَالُ: كَذَّبَ فُلَانًا حَدِيثًا وَكَذَّبَهُ الْحَدِيثَ أَيْ كَذَبَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَالْوَعْدُ خَبَرٌ مَوْقُوتٌ، كَأَنَّ الْوَاعِدَ قَالَ لِلْمَوْعُودِ: إِنَّنِي أَفِي بِهِ فِي وَقْتِهِ، فَإِنْ وَفَى فَقَدْ صَدَقَهُ وَلَمْ يَكْذِبْهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَكْذُوبٌ مَصْدَرًا، وَلَهُ نَظَائِرُ كَالْمَفْتُونِ وَالْمَجْلُودِ وَمِنْهُ: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} 68: 6.
{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَاُ نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} أَيْ: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا بِإِنْجَازِ وَعْدِنَا بِعَذَابِهِمْ نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ خِزْيِ ذَلِكَ الْيَوْمِ: أَيْ ذُلِّهِ وَنَكَالِهِ بِاسْتِئْصَالِ الْقَوْمِ مِنَ الْوُجُودِ، وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ سُوءِ الذِّكْرِ وَلَعْنَةِ الْإِبْعَادِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ- تَعَالَى-، وَأَصْلُ التَّعْبِيرِ: نَجَّيْنَاهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنَّا مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ، فَفَصَلَ بَيْنَ (مِنْ) الَّتِي هِيَ صِفَةُ الرَّحْمَةِ، و(مِنْ) الْمُوَصِّلَةِ لِلْعَذَابِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ هُودٍ بِدُونِ إِعَادَةِ فِعْلِ التَّنْجِيَةِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ هُنَاكَ، وَقُدِّرَ هُنَا اسْتِغْنَاءً عَنْ ذِكْرِهِ بِقُرْبِ مِثْلِهِ.
فَهَذِهِ الْآيَةُ كَالْآيَةِ (58) فِي قِصَّةِ هُودٍ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ جَاءَتْ بِالْفَاءِ- فَلَمَّا- وَتِلْكَ بِالْوَاوِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي مِثْلِ هَذَا الْعَطْفِ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْفَاءُ هِيَ الْمُنَاسِبَةُ لِمَا هُنَا؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا جَاءَ بِالْفَاءَاتِ الْمُتَعَاقِبَةِ الْوَاقِعَةِ فِي مَوَاقِعِهَا مِنْ أَمْرِ الْإِنْذَارِ فَالْوَعِيدِ عَلَى الْمُخَالَفَةِ فَالْمُخَالِفَةِ فَتَحْدِيدِ مَوْعِدِ الْعَذَابِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَالْإِخْبَارِ بِإِنْجَازِهِ وَوُقُوعِهِ- فَمَا كَانَ الْمُنَاسِبُ فِي هَذَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِالْفَاءِ تَعْقِيبًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ الشَّمْسِ: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} 91: 13 و14 وَإِنَّمَا بَيَّنْتُ هَذَا مِنْ نُكَتِ الْبَلَاغَةِ لِأَنَّنِي لَمْ أَرَهُ فِي التَّفَاسِيرِ الَّتِي تُعْنَى بِهَا.
فَلْيَتَأَمَّلِ الْقَارِئُ هَذِهِ الدِّقَّةَ الْغَرِيبَةَ فِي اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ فِي الْمَوْضُوعِ الْوَاحِدِ وَالْفُرُوقِ الدَّقِيقَةِ فِي الْعَطْفِ، فَإِنَّهَا لَا تُوجَدُ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ بُلَغَاءِ الْبَشَرِ أَلْبَتَّةَ، وَلِيَعْذُرَ الَّذِينَ يَفْهَمُونَهَا إِذَا جَعَلُوا بَلَاغَةَ الْقُرْآنِ هِيَ الَّتِي أَعْجَزَتِ الْعَرَبَ وَالْإِنْسَ وَالْجِنَّ عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، وَإِنْ كَانَ إِعْجَازُهُ الْعِلْمِيُّ مِنْ وُجُوهِهِ الْكَثِيرَةِ أَعْلَى.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} إِنَّ رَبَّكَ أَيُّهَا الرَّسُولُ الَّذِي فَعَلَ هَذَا قَادِرٌ عَلَى فِعْلِ مِثْلِهِ بِقَوْمِكَ إِذَا أَصَرُّوا عَلَى الْجُحُودِ، فَإِنَّهُ هُوَ الْقَوِيُّ الْمُقْتَدِرُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ إِنْجَازُ وَعْدِهِ، الْعَزِيزُ الْغَالِبُ عَلَى أَمْرِهِ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {يَوْمِئِذٍ} بِجَرِّ يَوْمٍ بِالْإِضَافَةِ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ بِالْفَتْحِ وَهُمَا لُغَتَانِ، وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ الْمَعَارِجِ: {لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} 70: 11.
{وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} الْأَخْذُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ التَّنَاوُلُ بِالْيَدِ، وَاسْتُعْمِلَ فِي الْمَعَانِي كَأَخْذِ الْمِيثَاقِ وَالْعَهْدِ وَفِي الْإِهْلَاكِ، وَالصَّيْحَةُ: الْمَرَّةُ مِنَ الصَّوْتِ الشَّدِيدِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا صَيْحَةُ الصَّاعِقَةِ الَّتِي نَزَلَتْ بِقَوْمِ صَالِحٍ فَأَحْدَثَتْ رَجْفَةً فِي الْقُلُوبِ وَزَلْزَلَةً فِي الْأَرْضِ، وَصُعِقَ بِهَا جَمِيعُ الْقَوْمِ {فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} أَيْ: سَاقِطِينَ عَلَى وُجُوهِهِمْ مَصْعُوقِينَ لَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، شُبِّهُوا بِالطَّيْرِ فِي لُصُوقِهَا بِالْأَرْضِ. يُقَالُ: جَثَمَ الطَّائِرُ وَالْأَرْنَبُ (مِنْ بَابِ ضَرَبَ) جُثُومًا، وَهُوَ كَالْبُرُوكِ مِنَ الْبَعِيرِ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} 7: 87 إِلَخْ. وَقَدْ فَصَّلْنَا فِي تَفْسِيرِهَا مَا وَرَدَ مِنَ اخْتِلَافِ التَّعْبِيرِ فِيهَا وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِثْلُهَا آيَةُ (44) سُورَةِ الذَّارِيَاتِ حَيْثُ قَالَ: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} وَفِي سُورَةِ فُصِّلَتْ آيَةُ 17 {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ} وَبَيَّنَّا مَعْنَى الصَّاعِقَةِ الَّذِي عُرِفَ مِنْ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى فِي نَوْعَيِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ الْإِيجَابِيِّ وَالسَّلْبِيِّ فَيُرَاجَعُ وَمِنْهُ يُعْلَمُ غَلَطُ مَنْ قَالَ: إِنَّ الصَّيْحَةَ صَوْتُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
{كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} هُوَ مِنْ غَنِيَ بِالْمَكَانِ (كَرَضِيَ) إِذَا أَقَامَ فِيهِ، أَيْ كَأَنَّهُمْ فِي سُرْعَةِ زَوَالِهِمْ، وَعَدَمِ بَقَاءِ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي دِيَارِهِمْ، لَمْ يُقِيمُوا فِيهَا ألْبَتَّةَ {أَلَا إِنَّ ثَمُودَا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ} تَقَدَّمَ مِثْلُهُ آنِفًا فِي قَوْمِ هُودٍ، وَفِي ثَمُودَ قِرَاءَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ مَشْهُورَتَانِ: تَنْوِينُهُ لِأَنَّهُ مَصْرُوفٌ بِمَعْنَى الْحَيِّ أَوِ الْقَوْمِ، وَمَنْعُهُ مِنَ الصَّرْفِ بِمَعْنَى الْقَبِيلَةِ، وَهَذِهِ قِرَاءَةُ أَكْثَرِ النَّاسِ فِي زَمَانِنَا.
إِبْرَاهِيمُ صلى الله عليه وسلم مَعَ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ:
ذُكِرَ إِبْرَاهِيمُ- صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ- فِي 24 سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ، مِنْهَا مَا هُوَ فِي قِصَّتِهِ مَعَ أَبِيهِ وَقَوْمِهِ فِي وَطَنِهِ مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا عَلَى مَا عَلِمْنَاهُ مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي بَيَانِ إِمَامَتِهِ وَكَوْنِ مِلَّتِهِ أَسَاسَ دِينِ اللهِ تَعَالَى عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ مِنْ عَهْدِهِ إِلَى خَاتَمِهِمْ- عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي بِشَارَتِهِ بِوَلَدَيْهِ إِسْمَاعِيلَ فَإِسْحَاقَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- وَمَا وَعَدَهُ اللهُ لَهُ وَلَهُمَا وَلِذُرِّيَّتِهِمَا، وَمَا هُوَ خَاصٌّ بِإِسْمَاعِيلَ وَقَوْمِهِ الْعَرَبِ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَإِسْكَانِهِ هُنَالِكَ، وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي بِشَارَةِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُ بِإِسْحَاقَ وَإِخْبَارِهِ بِإِهْلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ، وَمِنْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)}
مضى قوم نوح في التاريخ، الأكثرون المكذبون طواهم الطوفان وطواهم التاريخ؛ واستبعدوا من الحياة ومن رحمة الله سواء، والناجون استخلفوا في الأرض تحقيقًا لسنة الله ووعده: {إن العاقبة للمتقين} ولقد كان وعد الله لنوح: {يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم} فلما دارت عجلة الزمن ومضت خطوات التاريخ جاء وعد الله. وإذا عاد من نسل نوح الذين تفرقوا في البلاد ومن بعدهم ثمود ممن حقت عليهم كلمة الله: {وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم} لقد عادت الجاهلية مرة أخرى كما عادت من قبل بعد أجيال لا يعلمها إلا الله من المسلمين من ذرية آدم.. فلابد أن أجيالًا من ذرية آدم بعد استخلافه في الأرض قد ولدت مسلمة وعاشت بالإسلام الذي كان عليه أبواهم. حتى اجتالتهم الشياطين عن دينهم، وانحرفت بهم إلى الجاهلية التي واجهها نوح عليه السلام ثم جاء نوح فنجا معه من نجا من المسلمين، وأهلك الباقون ولم يعد على الأرض من الكافرين ديار كما دعا نوح ربه. ولابد أن أجيالًا كثيرة من ذرية نوح عاشت بالإسلام بعده.. حتى اجتالتهم الشياطين مرة أخرى فانحرفوا كذلك إلى الجاهلية. وكانت عاد وكانت ثمود بعدها من أمم الجاهلية..
فأما عاد فكانوا قبيلة تسكن الأحقاف (والحقف كثيب الرمل المائل) في جنوب الجزيرة العربية، وأما ثمود فكانت قبيلة تسكن مدائن الحِجر في شمال الجزيرة بين تبوك والمدينة وبلغت كل منهما في زمانها أقصى القوة والمنعة والرزق والمتاع.. ولكن هؤلاء وهؤلاء كانوا ممن حقت عليهم كلمة الله، بما عتوا عن أمر الله، واختاروا الوثنية على التوحيد، والدينونة للعبيد على الدينونة لله، وكذبوا الرسل شر تكذيب. وفي قصصهم هنا مصداق ما في مطلع السورة من حقائق وقضايا كقصة نوح.
{وإلى عاد أخاهم هودًا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون يا قوم لا أسألكم عليه أجرًا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارًا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين}..
وكان هود من عاد. فهو أخوهم. واحد منهم، تجمعه كانت آصرة القربى العامة بين أفراد القبيلة الواحدة. وتبرز هذه الآصرة هنا في السياق، لأن من شأنها أن تقوم الثقة والتعاطف والتناصح بين الأخ وإخوته، وليبدو موقف القوم من أخيهم ونبيهم شاذًا ومستقبحًا! ثم لتقوم المفاصلة في النهاية بين القوم وأخيهم على أساس إفتراق العقيدة. ويبرز بذلك معنى إنقطاع الوشائج كلها حين تنقطع وشيجة العقيدة.
لتتفرد هذه الوشيجة وتبرز في علاقات المجتمع الإسلامي، ثم لكي تتبين طبيعة هذا الدين وخطه الحركي.. فالدعوة به تبدأ والرسول وقومه من أمة واحدة تجمع بينه وبينها أواصر القربى والدم والنسب والعشيرة والأرض... ثم تنتهي بالإفتراق وتكوين أمتين مختلفتين من القوم الواحد.. أمة مسلمة وأمة مشركة.. وبينهما فُرقة ومفاصلة.. وعلى أساس هذه المفاصلة يتم وعد الله بنصر المؤمنين وإهلاك المشركين. ولا يجيء وعد الله بهذا ولا يتحقق إلا بعد أن تتم المفاصلة، وتتم المفارقة، وتتميز الصفوف، وينخلع النبي والمؤمنون معه من قومهم، ومن سابق روابطهم ووشائجهم معهم، ويخلعوا ولاءهم لقومهم ولقيادتهم السابقة، ويعطوا ولاءهم كله لله ربهم ولقيادتهم المسلمة التي دعتهم إلى الله وإلى الدينونة له وحده وخلع الدينونة للعباد.. وعندئذٍ فقط لا قبله يتنزل عليهم نصر الله..
{وإلى عاد أخاهم هودا}..
أرسلناه إليهم كما أرسلنا نوحًا إلى قومه في القصة السابقة.
{قال يا قوم}..
بهذا التودد، والتذكير بالأواصر التي تجمعهم، لعل ذلك يستشير مشاعرهم ويحقق اطمئنانهم إليه فيما يقول. فالرائد لا يكذب أهله، والناصح لا يغش قومه.
{قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}.. القولة الواحدة التي جاء بها كل رسول وكانوا قد انحرفوا كما أسلفنا عن عبادة الله الواحد التي هبط بها المؤمنون مع نوح من السفينة. ولعل أول خطوة في هذا الإنحراف كانت هي تعظيم ذكرى الفئة المؤمنة القليلة التي حملت في السفينة مع نوح! ثم تطور هذا التعظيم جيلًا بعد جيل فإذا أرواحهم المقدسة تتمثل في أشجار وأحجار نافعة؛ ثم تتطور هذه الأشياء فإذا هي معبودات، وإذا وراءها كهنة وسدنة يعبّدون الناس للعباد منهم باسم هذه المعبودات المدعاة في صورة من صور الجاهلية الكثيرة. ذلك أن الإنحراف خطوة واحدة عن نهج التوحيد المطلق. الذي لا يتجه بشعور التقديس لغير الله وحده ولا يدين بالعبودية إلا لله وحده.. الإنحراف خطوة واحدة لابد أن تتبعه مع الزمان خطوات وانحرافات لا يعلم مداها إلا الله.
على أية حال لقد كان قوم هود مشركين لا يدينون لله وحده بالعبودية، فإذا هو يدعوهم تلك الدعوة التي جاء بها كل رسول: {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}.: {إن أنتم إلا مفترون}..
مفترون فيما تعبدونه من دون الله، وفيما تدعونه من شركاء لله.
ويبادر هود ليوضح لقومه أنها دعوة خالصة ونصيحة ممحضة، فليس له من ورائها هدف. وما يطلب على النصح والهداية أجرًا. إنما أجره على الله الذي خلقه فهو به كفيل: {يا قوم لا أسألكم عليه أجرًا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون}.
مما يشعر أن قوله: {لا أسألكم عليه أجرًا} كان بناء على اتهام له أو تلميح بأنه يبتغي أجرًا أو كسب مال من وراء الدعوة التي يدعوها.
وكان التعقيب: {أفلا تعقلون} للتعجيب من أمرهم وهم يتصورون أن رسولًا من عند الله يطلب رزقًا من البشر، والله الذي أرسله هو الرزاق الذي يقوِّت هؤلاء الفقراء!
ثم يوجههم إلى الإستغفار والتوبة. ويكرر السياق التعبير ذاته الذي ورد في أول السورة على لسان خاتم الأنبياء، ويعدهم هود ويحذرهم ما وعدهم محمد وحذرهم بعد ذلك بالآف السنين: {ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارًا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين}..
استغفروا ربكم مما أنتم فيه، وتوبوا إليه فابدأوا طريقًا جديدًا يحقق النية ويترجمها إلى عمل يصدق النية..
{يرسل السماء عليكم مدرارًا}..
وكانوا في حاجة إلى المطر يسقون به زروعهم ودوابهم في الصحراء، ويحتفظون به بالخصب الناشئ من هطول الأمطار في تلك البقاع.
{ويزدكم قوة إلى قوتكم}..
هذه القوة التي عرفتم بها..
{ولا تتولوا مجرمين}..
مرتكبين لجريمة التولي والتكذيب.
وننظر في هذا الوعد. وهو يتعلق بإدرار المطر ومضاعفة القوة. وهي أمور تجري فيها سنة الله وفق قوانين ثابتة في نظام هذا الوجود، من صنع الله ومشيئته بطبيعة الحال. فما علاقة الإستغفار بها وما علاقة التوبة؟
فأما زيادة القوة فالأمر فيها قريب ميسور، بل واقع مشهود، فإن نظافة القلب والعمل الصالح في الأرض يزيدان التائبين العاملين قوة. يزيدانهم صحة في الجسم بالإعتدال والاقتصار على الطيبات من الرزق وراحة الضمير وهدوء الأعصاب والإطمئنان إلى الله والثقة برحمته في كل آن؛ ويزيدانهم صحة في المجتمع بسيادة شريعة الله الصالحة التي تطلق الناس أحرارًا كرامًا لا يدينون لغير الله على قدم المساواة بينهم أمام قهار واحد تعنو له الجباه.. كما تطلقان طاقات الناس ليعملوا وينتجوا ويؤدوا تكاليف الخلافة في الأرض؛ غير مشغولين ولا مسخرين بمراسم التأليه للأرباب الأرضية وإطلاق البخور حولها ودق الطبول، والنفخ فيها ليل نهار لتملأ فراغ الإله الحق في فطرة البشر!